حين يدق الشتات إسفين البعد عن الوطن ويهيم الشوق في أفئدة تحترق وأرواح أبصرت النور في ظلال البعد حيث مخيمات اللجوء التي أقامتها الأمم المتحدة لأولئك الفارين بأعراضهم من وطأة الغزاة وعتاولة المذابح المنظمة على أرض فلسطين ..
عندها تتمنى الطفولة الحزينة أن تروي ناظريها بتلال الوطن الأسير أو تلمح جانبا من ضفاف شطآنه ولكن هيهات وهيهات فالوطن محتجز خلف أسلاك الأسر وحواجز صنعها المحتل الغاصب ليمنع الأحبة من الوصول إليه يدنسون بأقدامهم تراب الأقصى فيزرع القهر براعمه في قلوب أحبت الوطن لله وفي الله واشتهت الموت في سبيل كرامة الدين وتحرير الأقصى الشريف.
كانت دلال المغربي واحدة من تلك البراعم التي نبتت على أرض الشتات .. ولدت دلال في بيروت سنة 1958م في مخيم صبرا وشاتيلا وهو أحد مخيمات الشتات التي امتلأت بها العاصمة اللبنانية منذ أن هاجرت أسرتها من مدينة يافا عقب نكبة عام 1948م فنشأت بين أحضان الحنين وتجرعت من مرارة الحرمان تسأل أباها دوما.
لماذا نحن يا أبت ** لماذا نحن أغراب
أليس لنا في هذه ** الدنيا أصحاب وأحباب
ليلتهب الحنين في قلبها من ذكريات طالما سمعتها من والدها حين يبكي يافا ويحي برتقال يافا وعن بيارة وزيتونة وأرض عاش عليها الأجداد منذ القدم لم يفرقهم سوى أطماع الصهاينة الغزاة.
تلقت دلال المغربي تعليمها في مدارس غوث للاجئين الفلسطينيين حتى أكملت المرحلة الإعدادية تشربت خلال دراستها أحداث النكسة التي حدثت سنة 1967م وذاقت مرارة سقوط القدس في يد الغزاة يدوسون بأقدامهم أرض المسجد الأقصى الطاهر لا يردهم عن بغيهم عرف ولا ملة ، الأمر الذي أضرم نيران الجهاد في صدرها واشتاقت روحها للفداء فالتحقت بمعسكرات الشبيبة التابعة
لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح).
واستمرت تغرف من لهيب حب الوطن تحلم بيوم اللقاء وعناق ثراه الغالي حتى كان عام 1973م والأمة العربية على موعد تحد ملتهب ضد دولة الكيان المزعوم تلتف بقيادة موحدة لمساندة دول الطرق في مواجهة أجمعت التقديرات على نجاحها بفضل الوحدة والتصدي ضمن إطار الوطن العربي الواحد من المحيط إلى الخليج لكن وقبيل أن تفرح الأمة برايات النصر مرفرفة على سماء سيناء كانت أيدي الموساد تسدد ضرباتها في عملية اغتيال حاقدة تقتل خلالها ثلاثة من رموز المقاومة الفلسطينية في لبنان هم كمال عدوان ومحمد يوسف النجار وكمال ناصر تعتقد أنها بذلك ستنال من إرادة شعب مجاهد لا يريد سوى تحرير فلسطين من براثن المعتدين.
فعمت أوساط الشعب الفلسطيني والشارع العربي موجة غضب وحزن على ثلاثة من رموز المقاومة طالما جندوا أرواحهم وأقلامهم وعقولهم في سبيل تخليص الوطن العربي من شوكة صهيون العالقة في قلبه النابض.. فكان الثأر لرموز المقاومة ، وليد قهر طال زمانه وبعمق الجرح المتوهج في النفوس ستكون نيران الرد.
كان الشهيد أبو جهاد قد وضع خطة لعملية فدائية هدفها الأول الوصول إلى مبنى الكنيست اليهودي (مقر البرلمان) في تل أبيب لإشعار العدو الجاثم على قلب فلسطين بأن الحق لن يموت ما دام فينا طفل يرضع !!!
أما الهدف الثاني فهو احتجاز عدد من اليهود كرهائن بهدف مطالبة حكومة الكيان استبدالهم بعدد من المعتقلين الفدائيين من فلسطينيين أو عرب داخل السجون الإسرائيلية.
استلزم الأمر لنجاح الخطة تدريب الشبيبة من كوارد فتح على استخدام كافة أنواع الأسلحة اليدوية الممكنة في آن واحد ما دام السلاح اليدوي هو المتاح في تلك المرحلة ، وقد تطلب الأمر البحث عن النخبة من المجموعات المدربة للقيام بتلك المهمة ، اقتضت الخطة التي وضعها الشهيد أبو جهاد بأن يتم إنزال الفدائيين على مقربة من الشواطئ المقابلة لمدينة تل أبيب عبر زوارق مطاطية ولم يكن هذا الأمر سهل المنال فإن اختيار الشباب القادر على مثل هذه المهمة اقتضى العمل ضمن إطار الخطة لسنوات عديدة.
فكانت دلال المغربي الوحيدة بين الفتيات اللاتي تجاوزن كافة الصعوبات بجسارة وقوة عندها قرر الشهيد أبو جهاد أن تكون دلال المغرب قائدا للعملية التي ضمت ثلاثة عشر كادرا بينهم لبناني وآخر يمني كان يحلم بالصلاة في المسجد الأقصى !!
وهنا يطرح السؤال نفسه لماذا اختار القائد أبو جهاد دلال المغربي لتولي قيادة العملية ؟
يرى البعض أن دلال كانت الفتاة الوحيدة المشاركة في العملية وقد أراد أن يدعم وجودها بين مجموعة الشباب فأوكل إليها أمر القيادة، بينما يرى البعض الأخر أنه أراد بهذا الاختيار لفت نظر العالم بأسره إلى القدرات الهائلة التي تمتلكها المرأة الفلسطينية المجاهدة والتي لا تقل وطنية أو كفاءة عن الرجل ويبدو أنه رأى – رحمه الله ، في روح دلال المغربي رغبة جهادية عالية ستصنع معها المعجزات على أرض الجهاد ، يضاف إلى ذلك قدرات عسكرية أهلتها لتحمل لواء القيادة في عملية خطرة وصعبة ولا تحتمل أية مجاملات للمرأة أو للرجل على حد سواء.
بعد أن اكتملت التجهيزات تقرر أن يكون اسم المجموعة هو مجموعة دير ياسين استرجاعا لذكرى مجزرة كان مجرمها السفاح بيجن حين حصد في قرية صغيرة ما يقرب عن خمسمائة فلسطيني من الأطفال والنساء والرجال من سكان القرية، كما تقرر أن يكون اسم العملية هو عملية كمال عدوان تخليدا لذكرى مناضل بطل سطر نضاله على صفحات الجهاد من أجل فلسطين.
في يوم 11/4/1978م ركبت مجموعة دير ياسين سفينة نقل تجارية تقرر أن توصلهم إلى مسافة 12 ميل عن الشاطئ الفلسطيني ثم استقلت المجموعة زوارق مطاطية تصل بهم إلى شاطئ مدينة يافا القريبة من تل أبيب حيث مقر برلمان الكيان الصهيوني الهدف الأول للعملية غير أن رياح البحر المتوسط كانت قوية في ذلك اليوم فحالت دون وصول الزوارق إلى الشاطئ في الوقت المحدد لها الأمر الذي دفع بالزورقين المطاطيين إلى البقاء في عرض البحر ليلة كاملة تتقاذفها الأمواج حتى لاحت أضواء تل أبيب والكوادر ينهكها التعب لكن الفرحة برؤية أنوار الساحل شحذت الهمم وتعالت معها أصوات الفرح والتكبير وهكذا وصلت دلال المغربي أرض الوطن لحظات اختلط فيها الحلم بالأمل بالتعب الذي صاحب الرحلة الشاقة عانقت خلالها دلال المغربي التراب عناق الشوق تستلهم منه رائحة الأجداد فترقرقت منها دموع الحب للوطن للأرض الثكلى لوجع السنين وشتات البعد.
لكن صوت القائد أبي جهاد اخترق الحزن المنفطر بداخلها بكلماته التي طالما رددها على مسامعها ستكونين يا دلال نبراسا لفتيات الوطن وبدرا يضيء عتمة القهر وضياء مجاهدا يعلن للعالم أن شعب فلسطين لن يموت سيحتضنك الثرى وترفرف روحك فوق سماء فلسطين بلا حواجز بلا حدود بلا جنود ستجعلين يا دلال مناحيم بيجن يبكي كما أبكانا في دير ياسين وهدفنا هو الكنيست !!!
هبت دلال تمسح دموعها تذكر المجموعة بان لا وقت للراحة أو للدموع مذكرة إياهم بأن أي تضييع للوقت قد يؤدي إلى فشل العملية.
ثم تجاوزت مع مجموعتها الشاطئ إلى الطريق العام قرب مستعمرة (معجان ميخائيل) حيث تمكنت دلال المغربي ومجموعتها من إيقاف سيارة باص كبيرة بلغ عدد ركابها ثلاثين راكبا وأجبروها على التوجه نحو تل أبيب .. في أثناء الطريق استطاعت المجموعة السيطرة على باص ثاني ونقل ركابه إلى الباص الأول وتم احتجازهم كرهائن ليصل العدد إلى 68 رهينة.
كان الوجوم يخيم على وجوه الرهائن إذ لم يخطر ببالهم رؤية فدائيين على أرض فلسطين ، لقد ساد اعتقاد بين الصهاينة أنهم ملكوا أرض فلسطين لكن دلال كسرت حاجز الصمت لتوضح لهؤلاء الرهائن الموقف كما يراه الفلسطينيون قائلة : نحن لا نريد قتلكم نحن نحتجزكم فقط كرهائن لنخلص إخواننا المعتقلين في سجون دولتكم المزعومة من براثن الأسر، وأردفت بصوت خطابي نحن شعب يطالب بحقه بوطنه الذي سرقتموه ما الذي جاء بكم إلى أرضنا ؟ وحين رأت دلال ملامح الاستغراب في وجوه الرهائن اليهود سألتهم : هل تفهمون لغتي أم أنكم غرباء عن اللغة والوطن !!! هنا ظهر صوت يرتجف من بين الرهائن لفتاة قالت إنها يهودية من المغرب تعرف العربية ، فطلبت دلال من الفتاة أن تترجم ما تقوله للرهائن ثم أردفت دلال تستكمل خطابها بنبرات يعلوها القهر: لتعلموا جميعا أن أرض فلسطين عربية وستظل كذلك مهما علت أصواتكم وبنيانكم على أرضها. ثم أخرجت دلال من حقيبتها علم فلسطين وقبلته بكل خشوع ثم علقته داخل الباص وهي تردد ....
بلادي ... بلادي ... بلادي ** لك حبي وفؤادي
فلسطين يا أرض الجدود ** إليك لا بد أن نعود
ثم صاحت في وجه الرهائن بنبرة مذهلة ... وها أنا أعود وسيعود الآلاف مثلي من أبناء فلسطين وعشاق فلسطين من أحرار المسلمين ليخلصوا المساجد من دنس حكومتكم وعليكم أن تعودوا من حيث جئتم.
عند هذه المرحلة اكتشفت قوات الكيان الصهيوني العملية فجندت قطع كبيرة من الجيش وحرس الحدود لمواجهة الفدائيين وسعت لوضع الحواجز في جميع الطرق المؤدية إلى تل أبيب لكن الفدائيين تمكنوا من تجاوز الحاجز الأول ومواجهة عربة من الجنود وقتلهم جميعا الأمر الذي دفع بقوات الاحتلال إلى المزيد من تكثيف الحواجز حول الطرق المؤدية إلى تل أبيب غير أن الفدائيين استطاعوا تجاوز حاجز ثان وثالث حتى أطلوا على مشارف تل أبيب فارتفعت روحهم المعنوية أملا في تحقيق الهدف لكن قوات الاحتلال صعدت من إمكاناتها العسكرية بمزيد من الحشود لمواجهة ثلاثة عشر فدائيا تقودهم فتاة أطلوا من خلف الشتات بأسلحة خفيفة صمدت في وجه دبابات الظلم ووحشية المواجهة فتمركزت الآليات الصهيونية المدرعة قرب ناد ريفي اسمه (كانتري كلوب) وأصدر إيهود باراك قائد الجيش الصهيوني المواجه للعملية آنذاك ، أوامره بإيقاف الباص بأي ثمن.
فعملت قوات الاحتلال على تعطيل إطارات الباص ومواجهته بمدرعة عسكرية لإجباره على الوقوف .. حاولت المجموعة الفدائية مخاطبة جيش الاحتلال بهدف التفاوض وأملا في ألا يصاب أحد من الرهائن بأذى لكن جيش الاحتلال رفض أن يصغي لصوت الفتاة اليهودية المغربية التي حاولت محادثتهم من نافذة الباص بل إن الجيش الاحتلال أعلن عبر مكبرات الصوت أن لا تفاوض مع جماعة (المخربين) وأن عليهم الاستسلام فقط.
لم تكن هذه اللحظات بالأمر الهين على فتاة لم تتجاوز العشرين من العمر لكن دلال واجهتها بكل قوة وبسالة فنظرت في وجه الرهائن مخاطبة إياهم بقولها : ها أنتم تسمعون ما يقوله جيشكم إنه لا يأبه بالحفاظ على أرواحكم إنما يريد قتلكم وقتلنا بأي ثمن !!! اعترض صوت دلال في تلك اللحظة الحاسمة بكاء طفل كان في داخل الباص مع والدته لم تتمالك دلال نفسها حين سمعت بكاء الطفل ، رغم خطورة الموقف من النظر إليه نظرة حانية متألمة وأن تخاطب أمه قائلة : نحن لم نفكر في إيذاء أحد منكم لو أن قواتكم قبلت التفاوض معنا ولكنكم كما ترون وبادرت إطلاق النار غير مهتمة بأمر وجودكم بيننا وعلينا أن نرد !!
ثم أصدرت دلال أوامرها للمجموعة بمواجهة قوى الاحتلال وجرت معركة عنيفة ضربت خلالها دلال المغربي ومجموعتها أروع نماذج الصمود والجرأة في الأوقات الصعبة عندما نجحت في اختراق جيش العدو ومقاتلته بأسلحتها البسيطة التي استخدمتها في آن واحد مدعمة بسالتها بصيحات التكبير ليعلو الصوت الفلسطيني في وجه الغطرسة التي تدعي أنها أقوى دولة عسكرية في الشرق الأوسط وتداعى جنود الاحتلال أمام كلاشنكوف دلال المغربي ما بين قتيل وجريح وصريع وهارب من وجه فتاة أحبت وطنها لله وفي الله .. أصيبت دلال واستشهد ستة من أبطال المجموعة وبدأ الوضع ينقلب لمصلحة العدو خاصة وأن ذخيرة المجموعة بدأت في النفاذ غير أن واجب الصمود والتحدي أجبر المجموعة المتبقية ومعها دلال إلى مواصلة القتال .. كانت قوات الاحتلال خلال هذا المشهد تطلق قذائفها غير مبالية باليهود الرهائن المحتجزين بالباص ، فانبرى أولئك بين قتيل وجريح وظهر للمجموعة أن الوضع أخذ في التردي خاصة وأن دلال أصيبت إصابة بالغة فاستبسلت مع رفاقها في تكبيد جيش العدو أكبر قدر من الخسائر حتى أطلقت دلال آخر رصاصة لديها كأنها زغاريد تعلن عن زفاف حافل وعرس مكلل بالطلقات لأجمل عروس يحتضنها ثرى فلسطين.
استشهدت دلال المغربي ومعها أحد عشر من الفدائيين بعد أن كبدت جيش العدو حوالي (30 قتيلا وأكثر من 80 جريحا) كرقم أعلنته قوات الاحتلال الصهيوني ، أما الاثنين الآخرين فقد نجح أحدهما في الفرار والآخر وقع أسيرا متأثرا بجراحه فأقبلت قوات الاحتلال بشراسة وعنجهية على الأسير الجريح تسأله عن قائد المجموعة فأشار بيده إلى دلال وقد تخضبت بثوب عرسها الفلسطيني ، لم يصدق إيهود براك ذلك فأعاد سؤاله على الأسير الجريح مهددا ومتوعدا فكرر الأسير قوله السابق : إنها دلال المغربي.
فاقبل عليها إيهود باراك يشدها من شعرها ويركلها بقدمه بصلف ظالم لا يقر بحرمة الأموات كأن جسدها الميت يصرخ في وجهه قائلا:
يا عدو الشمس إني لن أساوم..
وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم !!!
إن كانت دلال المغربي ومجموعتها قد عجزت عن الوصول إلى مبنى الكنيست فيكفيها أنها أشعرت العدو الصهيوني بأن لفلسطين مطالب ، وقوة الجهاد في عروقنا ستبقى حتى يتحرر الوطن السليب.
وصدق الشهيد القائد أبو جهاد حين جعل دلال المغربي قائد لعملية كمال عدوان ، فالدفاع عن أرض فلسطين لن يقف عند عتبات الرجال.
استشهدت دلال المغربي على أرض يافا يحتضنها ثرى فلسطين كما حلمت يوما لم تقهر إرادتها أسوار الشتات ولم يفت من عضدها قيود الحصار عشقت الوطن فقبلها شهيدة مجاهدة تصنع نبراسا لفتيات ساروا على دربها من دلال المغربي إلى آيات الأخرس ونعيمة طقاطقة ودارين أبو عيشة .. إلى جنة الخلد أيتها الشهيدة ولتحيا روح الجهاد.
[