قصة قصيرة ........ (فارس)

فارس

فارس طفل رضيع ماله من هذه الدنيا سوى شهرين ونصف الشهر .. أمضاها يرضع حليباً ممزوجاً بطعم البطولة والشهامة و الكرامة من أمه الفلاحة المناضلة التي قضت نحبها بمحاولة يائسة للدفاع عن زوجها ... شاءت الأقدار أن يكون فارساً معذباً منذ نشأته .. فلقد رمى به حظه في موقعة مقتل أمه التي استشهدت بعد أن استقبلت عشرين رصاصة من رشاشات العدو كانوا جسراً لها للوصول إلى الجنة وهي تحمل بيدها حجراً مازال ملتصقاً بكفها ... حبا فارس بالغريزة الطفولية نحو أمه مقترباً منها فغاصت قدماه الصغيرتان في دماءها الذكية الطاهرة ، دنى منها أكثر ومن ثم انهال على صدرها بنهم ليحاول أن يقتات بحليبها ... ولكن الحليب انسكب بعد كسر إناءه ... رفع فارس رأسه والدموع تنهمل على وجنتيه لتتساقط على بركة الدم مشكلة خليطاً غريباً من الدم والدموع ... رأى نوراً يسطع فاتجه نحوه يحبو حاملاً بين يديه بندقية أمه .

رأى أشياء خضراء تتبختر، تروح وتجيء برعشة شبه جنونية، على وجهها مسحة من العدوانية وبعينيها نظرة حاقدة ممتلئة شراً وغضباً وشراسة ، أدرك أن هؤلاء هم قتلة حليبه ... اتجه نحوهم محاولاً الاستفسار عن سبب قتلهم لأمه وليشرح لهم مدى حاجته للحليب في هذا العمر .. فرموه بتلك النظرة العدوانية المتأصلة في عيونهم ووجوههم ... تراجع ... تراجع مفكراً ... مفكراً في أمه ... واشتعلت النار في صدره عندما تذكر وجهها الضحوك وثغرها الباسم عند موتها ... أدرك ان هؤلاء هم القتلة ... وأدرك أن لا سبيل لرد العدوان سوى بالقوة ...

ترجل فارس على قدميه و نزع بندقيته من وراء كتفه وشرع يضغط على الزناد ومع كل ضغطة كانت إحدى هذه الأشياء الخضراء تتهاوى أمام ناظريه خائرة كأوراق الشجر ..
ولكن الريح بدأت تشتد ومع اشتدادها وعتوها حملت –حجراً- دك في صدره فاخترقه محدثاً فيه ثقباً حتى الظهر ، تماسك ...تماسك عندما تذكر أمه التي كفكفت دموعه بيدها ... أكمل ما بدأه ... ولكن الرياح خانته للمرة الثانية لترسل إليه حجرا ليحدث في جسده ثقباً أفظع من سلفه ... ولكنه تماسك ... تماسك متذكراً أخوته اللذين قتلوا وهم بنفس عمره ... ولم تكتف الرياح بما فعلته فحملت إليه حجراً ثالثاً ورابعاً حتى خر على دمه متوجعاً يئن من أثر جراحه ...

تهادى إلى مسمعه صوت الأذان يرفع "الله أكبر ...الله أكبر ..." مخرساً جميع الأصوات المستهزئة التي كانت تهذي من حوله ...قام فارس ...تحامل على جراحه وألمه ...وكابد أكبر مكابدة ...ولكنه قام تاركاً بندقيته رافعاً يديه نحو رأسه قائلاً "الله أكبر" ....
عصفت الرياح أصبحت زمهريراً ..وبدأت تزمجر غاضبة مكفهرة .. حاملة إلى ظهر فارس عدداً لا نهاية له من الأحجار ...التي مزقت كل قطعة من جسمه ....

فجأة ...وبعد أن حال لون الدنيا إلى السواد ...انشقت السماء أمام عينيه ... محدثة دوياً هائلاً توقفت العاصفة ...وذهلت الأشجار ... ومدت السماء نوراً وصل إلى أقدام فارس ..نظر إلى الأعلى فرأى أمه فاتحة ذراعيها مبتسمة ووجهها ينضح بالحيوية والجمال ...لم يعد يرى موقع جراحه ... وأحس بنفسه يجثو على الأرض ...متجهاً نحو أمه حابياً وتاركاً وراءه دماءه و بندقيته لتشهد على ميلاد فارس عصر جديد ...

تقبلو خالص تحياتي

عاشق تراب فلسطين