وأنا ..
صمت فجأة ووقف.
الآن، فقط، عرف منشأ ذلك الشعور بالارتياح والاكتفاء الذي لم يكن بوسعه، قبل دقائق، أن يكتشفه.. إنه ينفتح أمام عينيه بكل اتساعه وصفائه، بل إنه هدم، بشكل رائع، كل سدود الكآبة التي حالت بينه وبين معرفته.. وها هو الآن يتملكه من جديد بسطوة لا مثيل لها قيد.. كان أول شيء فعله ذلك الصباح الباكر هو كتابة رسالة طويلة إلى أمه.. وإنه يشعر الآن بمزيد من الارتياح لأنه كتب تلك الرسالة قبل أن تخيب آماله كلها في دكان الرجل السمين فيضيع صفاء الفرح الذي صبه في تلك الرسالة.. لقد كان بديعا أن يعيش بعض ساعة مع أمه.
نهض باكرا جدا ذلك الصباح.. كان الخادم قد رفع السرير إلى سطح الفندق لأن النوم داخل الغرفة في مثل ذلك القيظ وتلك الرطوبة أمر مستحيل.. وحينما أشرقت الشمس فتح عينيه " كان الجو رائعاً وهادئاً وكانت السماء ما زالت تبدو زرقاء تحوم فيها حمامات سود على علو منخفض ويسمع رفيف أجنحتها كلما اقتربت - في دورتها الواسعة - من سماء الفندق.. كائن الصمت مطبقا بكثافة، والجو يعبق برائحة رطوبة مبكرة صافية...مد يده إلى حقيبته الصغيرة الموضوعة تحت السرير فأخرج دفتراً وقلماً ومضى يكتب رسالة إلى أمه وهو مستلق هناك.
كان ذلك أحسن ما فعله خلال شهور، لم يكن مجبرا على فعله، ولكنه كان يريد ذلك بملء رغبته وإرادته.. كان مزاجه رائقاً، وكانت الرسالة تشبه صفاء تلك السماء فوقه.. ليس يدري كيف أجاز لنفسه أن يصف أباه بأنه مجرد كلب منحط ولكنه لم يشأ أن يشطب ذلك بعد أن كتبه، لم يكن يريد أن يشطب أي كلمة في الرسالة كلها.. ليس لأن أمه تتشاءم من الكلمات المشطوبة فقط، بل لأنه كان لا يريد ذلك أيضا، وببساطة.
ولكنه - على أي حال- لا يحقد على أبيه إلى ذلك الحد.. صحيح أن أباه قام بعمل كريه، ولكن من منا لا يفعل ذلك بين الفينة والأخرى؟ إنه يستطيع أن يفهم بالضبط ظروف والده، وبوسعه أن يغفر له.. ولكن هل بوسع والده أن يغفر لنفسه تلك الجريمة؟
" أن يترك أربعة أطفال. أن يطلقك أنت بلا أي سبب، ثم يتزوج من تلك المرأة الشوهاء.. هذا أمر لن يغفره لنفسه حين يصحو، ذات يوم، ويكتشف ما فعل. أنني لا أريد أن أكره أحداً، ليس بوسعي أن أفعل ذلك حتى لو أردت.. ولكن لماذا فعل ذلك، معك أنت؟ أنا أعرف أنك لا تحبين لأحد منا أن يحكي عنه، أعرف.. ولكن لماذا تعتقدين أنه فمل ذلك؟
لقد مضى كل شيء الآن وراح ولا أمل لنا بأن نستعيده مرة أخرى.. ولكن لماذا فعل ذلك؟ دعينا نسأل، لماذا؟
أنا سوف أقول لك لماذا.. منذ أن انقطعت عنا أخبار أخي زكريا اختلف الوضع
نهائيا.. كان زكريا يرسل لنا من الكويت، كل شهر حوالي مئتي روبية.. كان هذا المبلغ يحقق لأبي بعض الاستقرار الذي يحلم به.. ولكن حين انقطعت أخبار زكريا. نرجو أن يكون ذلك خيراً
- ماذا تعتقدين أنه فكر؟
لقد قال لنفسه. بل قال لنا كلنا. إن الحياة أمر عجيب.. وإن الرجل يريد أن يستقر في ، شيخوخته لا أن يجد نفسه مجبرا على إطعام نصف دزينة من الأفواه المفتوحة.. ألم يقل ذلك؟ زكريا راح.. زكريا، ضاعت أخباره، من الذي سيطعم الأفواه؟ من الذي سيكمل تعليم مروان ويشتري ملابس مي ويحمل خبزاً لرياض وسلمى وحسن؟ من؟
إنه رجل معدم، أنت تعرفين ذلك.. لقد كان طموحه كله.. كل طموحه، هو أن يتحرك من بيت الطين الذي يشغله في المخيم منذ عشر سنوات ويسكن تحت سقف من إسمنت، كما كان يقول.. الآن، زكريا راح.. آماله كلها تهاوت.. أحلامه انهارت.. مطامحه ذابت.. فماذا تعتقدين أنه سيفعل؟
لقد عرض عليه صديقه القديم والد شقيقة أن يتزوجها.. قال له أنها تمتلك بيتا من ثلاث غرف في طرف البلد، دفعت ثمنه من تلك النقود التي جمعتها لها منظمة خيرية.. وأبو شفيقة يريد شيئا واحدا: أن يلقي حمل ابنته. التي فقدت ساقها اليمنى أثناء قصف يافا - على كاهل زوج ! إنه على عتبة قبره ويريد أن يهبطه مطمئناً على مصير ابنته التي رفضها الجميع بسبب تلك الساق المبتورة من أعلى الفخذ.. لقد فكر والدي بالأمر: لو أجر غرفتين وسكن مع زوجته الكسحاء في الثالثة إذن لعاش ما تبقي له من الحياة مستقرا غير ملاحق بأيما شيء.. وأهم من ذلك.. تحت سقف من إسمنت.. ".
- أتريد أن تبقي واقفا هنا إلى الأبد؟
نفض رأسه وسار.. كان " أبو الخيزران " ينظر إليه من طرف حدقيته، وخيل إليه أنه على وشك أن يبتسم ساخراً.
- ما بالك تفكر بهذا الشكل؟ أن التفكير غير ملائم لك يا مروان، ما زلت صغير السن.. والحياة طويلة..
وقف مرة أخرى وألقى برأسه إلى الوراء قليلا:
- والآن .. ماذا تريد مني؟.
واصل " أبو الخيزران " المسير فلحق به من جديد:
- أستطيع أن أهربك إلى الكويت.
- كيف ؟
- هذا شأني أنا. أنت تريد أن تذهب إلى الكويت أليس كذلك؟ ها هو ذا إنسان بوسعه أن يأخذك إلى هناك.. ماذا تريد غير ذلك؟
- كم ستأخذ مني ؟
هذا ليس مهما في الواقع ...
- إنه المهم .
ابتسم أبو الخيزران ابتسامة واسعة فانشقت شفتاه عن صفين من الأسنان الكبيرة الناصعة البياض ثم قال:
- سأخبرك الأمر بكل صراحة.. أنا رجل مضطر للذهاب إلى الكويت، قلت لنفسي : لا بأس من أن أرتزق فأحمل معي بعض من يريد أن يذهب إلى هناك .. كم بوسعك أن تدفع؟
- خمسة دنانير..
- فقط ؟
- لا أملك غيرها.
- حسناً، سأقبلها..
وضع أبو الخيزران يديه في جيبه ومضى يسير بخطوات واسعة حتى أوشك مروان أن يضيعه، فاضطر إلى اللحاق به مسرعاً، إلا أن أبا الخيزران وقف فجأة وهز أصبعه أمام فمه:
-.. ولكن ! لا تقل ذلك لأي إنسان.. أعني إذا طلبت من رجل آخر عشرة دنانير فلا تقل له إنني أخذت منك خمسة فقط..
- ولكن كيف تريدني أن أثق بك؟
فكر أبو الخيزران قليلا ثم عاد فابتسم تلك الابتسامة الواسعة وقال:
- معك حق ! ستعطيني النقود في ساحة الصفاة في الكويت.. في العاصمة في منتصف العاصمة، مبسوط؟
- موافق !
- ولكننا سنحتاج إلى عدد آخر من المسافرين.. وعليك أن تساعدني، هذا شرط.
- إنني أعرف واحدا ينزل معي في الفندق ويرغب في السفر.
- هذا رائع، أنا أعرف واحداً آخر.. إنه من بلدتي في فلسطين أيام زمان قابلته صدفة هنا.. ولكنني لم أسألك.. ماذا تريد أن تفعل في الكويت.. هل تعرف أحدا؟
وقف مرة أخرى، إلا أن أبا الخيزران شده من ذراعه فعاد يخب إلى جانبه..
- إن أخي يعمل هناك.
هز أبو الخيزران رأسه فيما كان يسير متعجلا ثم رفع كتفيه فغاصت عنقه وبدأ أقصر من ذي قبل..
- وإذا كان أخوك يشتغل هناك.. فلماذا تريد أنت أن تشتغل؟ الذين في سنك ما زالوا في المدارس !..
- لقد كنت في المدرسة قبل شهرين، ولكنني أريد أن أشتغل الآن كي أعيل عائلتي ...
وقف أبو الخيزران ثم رفع كفيه من جيبه وثبتهما على خصريه وأخذ يحدق إليه ضاحكاً:
- ها ! لقد فهمت الآن.. أخوك لم يعد يرسل لكم نقوداً، أليس كذلك؟
هز مروان رأسه وحاول أن يسير، إلا أن أبا الخيزران شده من ذراعه فأوقفه..
- لماذا؟ هل تزوج ؟
حدق مروان إلى أبي الخيزران مشدوها ثم همس:
- كيف عرفت؟
- ها ، الأمر لا يحتاج إلى ذكاء خارق، كلهم يكفون عن إرسال النقود إلى عائلاتهم حين يتزوجون أو يعشقون..
أحس مروان بخيبة أمل صغيرة تنمو في صدره، لا لأنه فوجئ، بل لأنه اكتشفت أن الأمر شائع ومعروف، لقد كان يحسب أنه يخنق صدره على سر كبير لا يعرفه غيره: حجبه عن أمه وأبيه طوال شهور وشهور.. وها هو الآن يبدو على لسان أبي الخيزران كأنه قاعدة معروفة وبديهية:
- ولكن.. لماذا يفعلون ذلك؟ لماذا يتنكرون لـ...
صمت فجأة، كان أبو الخيزران قد بدأ يضحك:
- أنا مبسوط أنك ستذهب إلى الكويت لأنك ستتعلم هناك أشياء عديدة.. أول شيء ستتعلمه. هو أن: القرش يأتي أولا، ثم الأخلاق.
حين تركه أبو الخيزران على أمل لقاء بعد الظهر كان قد فقد. من جديد. كل تلك المشاعر الرائعة التي كانت تغسله، من الداخل، طوال الصباح.. بل أنه استغرب كيف تكون تلك الرسالة التي كتبها لأمه قد أعطته الشعور الرائق الذي جعل خيبة أمله تبدو أقل قيمة مما هي في الواقع.. رسالة سخيفة كتبها تحت وطأة الشعور بالوحدة والأمل على سطح فندق حقير مرمي في طرف الكون.. ما هو الخارق في الأمر؟ أيحسب أن أمه لا تعرف القصة كلها؟ ماذا كان يريد أن يقول ؟ أكان يريد أن يقنعها بأن هجران زوجها لها ولأولادها أمر رائع وطبيعي؟ إذن لماذا كل تلك الثرثرة؟ أنه يحب والده حبا خارقا لا يتزعزع.. ولكن هذا لا يغير شيئا من الحقيقة الراعبة.. الحقيقة التي تقول أن أباه قد هرب.. هرب.. هرب.. تماما كما فعل زكريا الذي تزوج وأرسل له رسالة صغيرة قال له فيها أن دوره قد أتى، وأن عليه أن يترك تلك المدرسة السخيفة التي لا تعلم شيئا وأن يغوص في المقلاة مع من غاص..
كل عمره كان على طرفي نقيض مع زكريا.. بل إنهما كانا. في الواقع. يكرهان بعضهما.. زكريا لم يكن يستطيع أن يفهم قط لماذا يتوجب عليه أن يصرف على العائلة طوال عشر سنوات بينما يروح مروان ويجيء إلى المدرسة مثل الأطفال.. وكان هو يريد أن يصبح طبيباً.. كان يقول لأمه إن زكريا لن يفهم قط معنى أن يتعلم الإنسان لأنه ترك المدرسة حين ترك فلسطين وغاص، منذ. ذاك، في المقلاة، كما يحب أن يقول.
وها هو الآن قد تزوج دون أن يقول ذلك لأحد غيره، كأنه كان يريد أن يضعه أمام ضميره وجها لوجه.. ولكن ماذا ترك له ليختار؟ لا شيء سوى أن يترك المدرسة ويعمل، يغوص في المقلاة من هنا وإلى الأبد !
لا بأس ! لا بأس.. أيام قليلة ويصل إلى الكويت.. إذا ساعده زكريا كان ذلك أفضل، إذا تجاهله فلسوف يعرف كيف يهتدي إلى أول الطريق كما اهتدى الكثيرون.. ولسوف يرسل كل قرش يحصله إلى أمه، سوف يغرقها ويغرق إخوته بالخير حتى يجعل من كوخ الطين جنة إلهية.. ويجعل أباه يأكل أصابعه ندماً !
ورغم ذلك، فإنه لا يكره أباه إلى هذا الحد، لسبب بسيط هو أن أباه ما زال يحبهم جميعاً.. لقد تأكد من ذلك تماما حين ذهب إليه يودعه قبل أن يسافر، لم يقل لأمه أنه سيذهب إلى بيت شفيقة وإلا لكانت جنت.. قال له أبوه هناك:
- أنت تعرف يا مروان بأن لا يد لي في الأمر، هذا شيء مكتوب لنا منذ بدء الخليقة.
قالت شفيقة:
- قلنا لأمك أن تأتي وتسكن هنا لكنها لم تقبل.. ماذا تريدنا أن نفعل أكثر من ذلك؟
كانت جالسة فوق بساط من جلد ماعز، وكان العكاز ملقى إلى حانبها، وفكر
هو: ترى أين ينتهي فخذها؟ " كان وجهها جميلا ولكنه حاد الملامح مثل وجوه كل أولئك المرضى الذين لا يرجى لهم الشفاء، وكانت شفتها السفلى مقوسة كأنها على وشك أن تبكي..
قال أبوه:
- خذ ، هذه عشرة دنانير.. قد تنفعك.. واكتب لنا دائما.
حين قام رفعت شفيقة ذراعيها في الهواء ودعت له بالتوفيق، كان صوتهـا فاجعا وحين التفت إليها قبل أن يجتاز الباب بدأت تشهق بالبكاء. وقال له أبوه:
- وفقك الله يا مروان يا سبع.
وحاول أن يضحك إلا أنه لم يستطع فأخذ يربت بكفه الكبيرة الخشنة على ظهره بينما تناولت شفيقة عكازها واستوت واقفة بحركة سريعة، كانت قد كفت عن البكاء.
صفق الباب وراءه وسار. كان ما زال يسمع صوت عكاز شفيقة يقرع البلاط برتابة، وعند المنعطف تلاشى الصوت.
الصفقة
اقتاد مروان زميله أسعد إلى موعده مع أبي الخيزران، وصلا متأخرىن قليلا فوجد أبا الخيزران، بانتظارهما، جالساً مع أبي قيس فوق مقعد إسمنت كبير على رصيف الشارع الموازي للشط.
- لقد اجتمعت العصابة كلها الآن أليس كذلك؟
صاح أبو الخيزران ضاحكا وهو يضرب كتف مروان بكفه ويمد الأخرى ليصافح أسعد.
- هذا هو صديقك إذن.. ما اسمه؟
أجاب مروان باقتضاب:
- أسعد.
- دعيني إذن أعرفكما على صديقي العجوز. " أبو قيس.. " وبهذا تكون العصابة قد اكتملت.. لا بأس أن تزداد واحداً.. ولكنها الآن كافية أيضا.
قال أسعد:
- يبدو لي أنك فلسطيني.. أأنت الذي سيتولى تهريبنا؟
- نعم، أنا.
- كيف؟
- هذا شأني أنا..
ضحك أسعد بسخرية ثم قال ببطء شادا على كلماته بعنف:
- لا يا سيدي.. أنه شأننا نحن.. يجب أن تحكي لنا كل التفاصيل، لا نريد متاعب منذ البدء.
قال أبو الخيزران بصوت حاسم:
- سأحكي لكم التفاصيل بعد أن نتفق، وليس قبل ذلك..
قال أسعد:
- لا يمكن أن نتفق قبل أن نعرف التفاصيل، ما رأي الشباب؟
لم يجب أحد، فأكد أسعد من جديد:
- ما رأي العم أبو قيس؟
- الرأي رأيكم..
- ما رأيك يا مروان؟
- أنا معكم.
قال أسعد بعنف:
- إذن، دعونا نختصر الوقت.. يبدو لي أن العم أبو قيس غير خبير بالأمر، أما مروان فإنها تجربته الأولى.. أنا عتيق في هذه الصنعة، ما رأيكم أن أتفاوض عنكم ؟
رفع أبو قيس كفه في الهواء موافقاً، وهز مروان رأسه، فالتفت أسعد إلى أبي الخيزران..
- لقد رأيت: الشباب سلموني الأمر، فدعني أقول لك شيئا: إننا من بلد واحد.
نحن نريد أن نرتزق وأنت تريد أن ترتزق، لا بأس، ولكن يجب أن يكون الأمر في منتهى العدل.. سوف تحكي لنا بالتفصيل كل خطوة، وسوف تقول لنا بالضبط كم تريد، طبعا سنعطيك النقود بعد أن نصل وليس قبل ذلك قط ..
قال أبو قيس:
- الأخ أسعد يحكي الحق يجب أن نكون على بينه من الأمر ، وكما يقول المثل :
ما يبدأ بالشرط ينتهي بالرضا .
رفع أبو الخيزران كفيه من جيبه ووضعهما على خصريه ، ثم نقل بصره فوق الوجوه جميعا ببطء وببرود حتى قرقراه فوق وجه أسعد :
- أولا كل واحد منكم سيدفع عشرة دنانير .. موافقون ؟
قال أبو قيس..
- أنا موافق
قال أسعد:
- أرجوك .. لقد سلمتني الأمر إذن دعني أحكي ... عشرة دنانير مبلغ كبير ، أن المهرب المحترف يأخذ ، عشر دينارا .. ثم ..
قاطعه أبو الخيزران:
- لقد اختلفنا إذن قبل أن نبدأ، هذا ما كنت أخشاه .. عشرة دنانير لا تنقص فلساً.. السلام عليكم.
أدار ظهره وخطا خطوتين بطيئتين قبل أن يلحقه أبو قيس صائحا :
- لماذا غضبت ؟ الموضوع سؤال وجواب والاتفاق أخو الصبر ..
- حسنا ، نعطيك عشرة دنانير .. ولكن كيف ستأخذنا ؟
ها ! نحن الآن في شغل الجد .. اسمع .
جلس أبو الخيزران على مقعد الإسمنت ووقف الثلاثة حواليه ومضى يشرح مستعيناً بيديه الطويلتين،
- لدي سيارة مرخصة لاجتياز الحدود.. ها ! يجب أن تنتبهوا: أنها ليست سيارتي.. أنا رجل فقير أكثر منكم جميعا وكل علاقتي بتلك السيارة أنني سائقها ! صاحب هذه السيارة رجل ثري معروف، ولذلك فإنها لا تقف كثيرا على الحدود، ولا تتعرض للتفتيش، فصاحب السيارة معروف ومحترم، والسيارة نفسها معروفة ومحترمة وسائق السيارة، تبعا لذلك، معروف ومحترم.
كان أبو الخيزران سائقاً بارعاً، فقد خدم في الجيش البريطاني في فلسطين قبل عام 1948 أكثر من خمس سنين، وحين ترك الجيش وانضم إلى فرق المجاهدين كان معروفا بأنه أحسن سائق للسيارات الكبيرة يمكن أن يعثر عليه، ولذلك استدعاه مجاهدو الطيرة ليقود مصفحة عتيقة كان رجال القرية قد استولوا عليها إثر هجوم يهودي.. ورغم أنه لم يكن خبيرا في قيادة المصفحات إلا أنه لم يخيب آمال أولئك الذين وقفوا على جانبي الطريق يتفرجون عليه وهو يدخل من الباب المصفح الصغير ويغيب لحيظات، ثم يهدر المحرك بالضجيج وتمضي المصفحة تدرج في الطريق الرملي الضيق. إلا أن المصفحة ما لبثت أن تعطلت، ولم تجد كل المحاولات التي بذلها أبو الخيزران لإعادتها إلى سيرتها السوية.. وإذا كانت خيبة أمل الرجال كبيرة، فإن خيبة أمله كانت أكبر، ولكن أبا الخيزران - على أي حال- أضاف إلى تجاربه في عالم المحركات تجربة أخرى، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول أن هذه التجربة لم تنفعه حين انضم إلى سائقي سيارات الحاج رضا في الكويت؟
لقد استطاع ذات يوم أن يقود سيارة ماء جبارة أكثر من ست ساعات في طريق ملحى موحل دون أن تغوص في الأرض وتتعطل مثلما حدث لجميع سيارات القافلة.. كان الحاج رضا قد خرج مع عدد من رجاله إلى الصحراء ليغيبوا عدة أيام في القنص.. إلا أن الربيع كان خادعاً، وأثناء عودتهم كانت الطريق تبدو بيضاء صلدة، وهذا ما دفع سائقي السيارات لاقتحامها دون وجل، وهناك بدأت السيارات، الكبيرة والصغيرة، تغوص في الوحل واحدة أثر الأخرى..إلا أن أبا الخيزران، الذي كان يقود سيارته الجبارة خلف الجميع واصل السير ببراعة ودون أن يتعطل ثانية واحدة.. وحين شارف سيارة الحج رضا الرمادية الغارقة حتى ثلاثة أرباع عجلاتها الورائية في الوحل، أوقف سيارته وهبت ثم اقترب من الحج وقال له:
ما رأي عمي الحج رضا أن يصعد إلى سيارتي؟ أن انتشال هذه السيارات يستلزم أكثر من أربع ساعات، وفي هذا الوقت سيكون عمي الحج رضا قد وصل إلى بيته.